المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ١٢ – التوحيد في عهد الملك المؤسس حدد بن بدد
تعد الأردن موطنًا للعديد من الأنبياء والحضارات القديمة التي أسهمت في نشر عقيدة التوحيد إلى المناطق المجاورة. وقد شهدت هذه الأرض المباركة تطورًا حضاريًا بارزًا خلال فترة حكم الملك حدد بن بدد، الذي قاد المملكة الأدومية بحنكة واقتدار. ونستعرض الجوانب الدينية والاجتماعية والاقتصادية في عهده، إضافةً إلى التأثيرات المتبادلة بين الأردن والممالك المجاورة
wikipedia: يد عشتروت (تمرين)، دانتي ١٨٧٦- ١٨٧٧ -المصدر
شهدت الأردن نزول العديد من الأنبياء، وخاصة في أقوام ثمود الأردنية، ومن بينهم سيدنا صالح، وسيدنا شعيب، وسيدنا لوط، وسيدنا أيوب، ولقمان، وغيرهم ممن لم تذكرهم المصادر التاريخية. وقد ساهمت هذه النبوات في نشر عقيدة التوحيد، التي انطلقت من الأردن نحو حضارات الرافدين شرقًا، والحضارة المصرية غربًا
إلى جانب انتشار عقيدة التوحيد، توسعت أيضًا عبادة الآلهة الوثنية الأردنية مثل عشتاروت والإله حورس، نظرًا لما كان للأردن من مكانة روحية موثوقة لدى الشعوب المجاورة. كما أن أخبار العقاب الإلهي لقوم ثمود وصلت إلى مصر والعراق، مما ساهم في تعزيز فكرة التوحيد في تلك الحضارات
يعد الملك أخناتون من أبرز ملوك مصر الموحدين، وقد كان يعرف قبل العام الخامس من حكمه باسم أمنحوتب الرابع. حكم مصر لمدة ١٧ عامًا، وتوفي على الأرجح في عام ١٣٣٦ ق.م أو ١٣٣٤ ق.م، أي في فترة سبقت عهد الملك حدد بن بدد، وفي زمن التحالف مع المملكة الأردنية الأدومية
ما كان ينطبق على المصريين في تلك الحقبة ينطبق أيضًا على المملكة الأردنية الأدومية خصوصًا، وعلى الممالك الأردنية عمومًا، إذ كان التبادل الحضاري بين الأردن ومصر نشطًا وممتدًا. ومن الشواهد على ذلك أن المصريين استوردوا عبادة الإله حورس من الحوريين الأردنيين
منهج وعقيدة الملك المؤسس حدد بن بدد في الحكم
عند تناول شخصية ومنهج الملك المؤسس حدد بن بدد، لا بد من الإشارة إلى ثلاثة أحداث مصيرية عاصرها الملك وواجهها، والتي كادت أن تتحول إلى أزمات كارثية، إلا أنه نجح في معالجتها بكفاءة واقتدار، مستندًا إلى دعم شعبه ومساندة النخبة المحيطة به
وتأكيدًا لانتمائه الأدومي الأردني، حرص الملك حدد بن بدد على اتباع نهج يستند إلى ثوابت المملكة الأدومية، والتي كانت قائمة لكنه طورها بما يتناسب مع المستجدات. فقد تميزت سياسته بالتمييز الواضح بين الهوية والشرعية من جهة، وحقوق المواطنة والمكتسبات الحياتية من جهة أخرى. حيث خص المواقع السيادية لأصحاب الهوية والشرعية، بينما منح بقية السكان حقوقًا حياتية دون التزامات سياسية، بشرط عدم الإخلال بأمن البلاد أو التأثير على موارد أهلها
على سبيل المثال، تعامل الأدوميون مع الهكسوس الأردنيين – الذين جاءوا من شمال الأردن واتخذوا من طبقة فحل عاصمة لهم – بطريقة تحفظ توازن المملكة. فعلى الرغم من أن الهكسوس كانوا أردنيين واستفادوا من موارد أدوم، حيث صنعوا أسطولهم من أشجار جبالها ووادي عربتها، إلا أن الأدوميين قبل الملك حدد بألف عام لم يسمحوا لهم بالاستقرار في أراضيهم. وبدلًا من ذلك، دعموهم في حملتهم لاحتلال مصر، وزودوهم بالمقاتلين الأدوميين والمديانيين، إلى جانب العتاد والإمكانات والعربات. وقد انتهج ملوك الأردن القدماء نفس السياسة، مما يعكس مبدأً ثابتًا في إدارة شؤون الدولة وحماية سيادتها
كما أن بني إسرائيل أعادوا شراء عرباتهم من الأدوميين أو صنعوا عربات جديدة من أشجار أدوم في سيناء، تجرها أبقارهم. ونتيجة لذلك، شاع التشاؤم بين الملك حدد والأدوميين، حيث أصبح كل من يدخل بلادهم بعربة تجرها الأبقار نذير شؤم وغير مرحب به، حتى ترسخ هذا الاعتقاد في الموروث الأردني. لهذا السبب، كان الأدوميون يسخرون من بني إسرائيل، معتبرين قدومهم إلى أرض أدوم بعربات تجرها الأبقار أمراً معيباً ومنقصة بحقهم
وخلال مناقشة القائد حدد بن بدد في جلسة ترشيحه للعرش، أكد أنه يحمي ثلاث دوائر عقائدية: العقيدة الدينية، والعقيدة الوطنية، والعقيدة الاجتماعية (العشائرية)
أما العقيدة الدينية، فرغم أنه كان موحدًا يؤمن بأن لا إله إلا الله، فقد التزم بعدم إجبار أي فرد من شعبه على اعتناق عقيدته أو أي معتقد آخر، بل ترك للناس حرية الإيمان والعبادة وممارسة الطقوس. ومع ذلك، كان عليهم الالتزام بالأعياد الوطنية العامة، والتي تعرف باسم “العقيدة الوطنية”، حيث يحتفل بعيدين سنويًا. وكان يطلق على العيد اسم “يوم الزينة”، وهو احتفال مشترك بين الممالك الأردنية والفراعنة، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في قوله تعالى: “قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى” (طه: 59)
بناءً على ذلك، أبقى المعابد قائمة تمارس طقوسها الدينية، من التوحيد إلى الوثنية، كما كانت من قبل، وأعلن إيمانه بالله الواحد واليوم الآخر، مؤكدًا أنه لن يكره أحدًا على اتباع عقيدته
أما العقيدة الوطنية، فهي أن يؤمن الجميع بالوطن وهويته وشرعيته، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو الاجتماعية، إذ إن الوطن يجمعهم جميعًا، ويدافعون عنه معًا، وينعمون بخيراته دون تمييز. كما ينبغي أن يكون الإخلاص للوطن مبدأً عامًا، فيحملونه في أعماقهم كما احتضنهم ومنحهم هويته وشرعيته
العقيدة الاجتماعية لكل فرد ترتبط بعشيرته، حيث ينبغي له أن يعتز بها ويحمل اسمها ويحافظ على مكانتها. وقد أكد الملك حدد أن الحفاظ على اسم العشيرة وشرفها يعكس الحفاظ على الوطن وكرامته، مما يجعل تولي المناصب مسؤولية تقع على عاتق المخلصين من أبناء العشائر الأدومية
واشتهر الملك حدد بن بدد بمقولته الخالدة: “ما يحرث البلاد إلا عجولها”، والتي أصبحت مثلاً أدومياً ثم أردنياً يتردد حتى يومنا هذا
كما حذّر من المرحلة القادمة، معتبراً أن بني إسرائيل يشكلون تهديداً لمصر وفرعونها، مما يجعلهم خطراً على الأردن عموماً وعلى أدوم خصوصاً. لذا، شدد على ضرورة الاستعداد لهذه المرحلة عبر التنسيق مع الممالك الأردنية والفرعونية، وتعزيز الجبهة الداخلية من خلال نشر الوعي والتعبئة بين أبناء الشعب الأدومي
وعند سؤاله عن استراتيجيته، أوضح أنه يسعى إلى تعزيز سياسة أدوم ضمن ثلاث دوائر رئيسية، أولها الدائرة الوطنية، والتي تهدف إلى تقوية اللحمة الوطنية، وتعزيز وحدة الشعب الأدومي، ومعالجة التشوهات التي أحدثها المديانيون
وأما الدائرة الثانية، فتتمثل في إقامة تحالف، وليس وحدة، مع باقي ممالك الأردن، ومنها مؤاب وعمون وباشان وبلعام وبيريا والإمارات الشرقية الأردنية
أما الدائرة الثالثة، فتهدف إلى تعزيز العلاقات والتحالف مع الفرعون رعمسيس الثاني (فرعون التسخير). فطالما ظل الفرعون قويًا، فإنه يشكل درعًا حصينًا يحمي أدوم وسائر ممالك الأردن. كما أن هذا النهج يتماشى مع سياسة ملوك الأدوميين السابقين في هذه الدوائر الثلاث. إضافة إلى ذلك، سيطرح مقترحًا للفرعون يقوم على “الإدارة الثنائية” بين الفرعون وأدوم، بدلًا من النزاعات والصراعات بينهما على الأرض. وتعد الإدارة الثنائية ابتكارًا أدوميًا أتى به الملك حدد بن بدد
وعندما سئل عن الأمن والأمان، أكد أنه سيعمل على منع قطع الطرق، والخطف، والعصابات، والغارات بين العشائر، بالإضافة إلى التصدي لظاهرة استعباد النساء العربيات الحرائر. كما تعهد بمكافحة الغش في الميزان، والقبض على قطّاع الطرق، ومنحهم فرصة للتوبة، فإن عادوا إلى أفعالهم الإجرامية، فسيتم نفيهم إلى العالم الجديد
:وأشار إلى أن هذه السلوكيات المنحرفة ما هي إلا امتداد لما كان عليه أهل مدين، حيث ذكرهم القرآن الكريم في قوله تعالى
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف: ٨٥]
أما عن قطع الطريق، سواء المادي أو المعنوي، فقد أكد أن هذه الظاهرة لا تزال منتشرة بين أهل مدين، حيث لا يزال العديد منهم يمارسون أعمال التخويف والسلب والنهب، فهم من أسوأ الناس معاملةً. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [الأعراف: ٨٦]
أي أنهم كانوا يهددون الناس بالقتل إن لم يدفعوا لهم الأموال، ويمارسون قطع الطرق ويبتزون العابرين بفرض الإتاوات عليهم
الشماغ والثوب الأردني
تعود صناعة الحرير والشماغ والثوب الأردني الواسع والطويل، إضافة إلى العباءة الرجالية والنسائية، إلى زمن الحوريين في منطقة أدوم، أي قبل آلاف السنين من ظهور الأدوميين. وبلغت هذه الصناعات ذروتها في عهد الملك حدد الأدومي، الذي أسهم في تشكيل الهوية الوطنية الأردنية وتعزيز شخصيتها المتميزة
شهدت صناعة الحرير الأردني الأدومي تطورًا وازدهارًا ملحوظًا خلال فترة حكم الملك حدد بن بدد، حيث حظيت بدعم ورعاية الدولة. ومن هذا الحرير، صنعت الشماغات (الشماغ)، وكان مركز إنتاجها في قرية شمَّاخ الشوبك، الواقعة فوق قمم جبال الشوبك. ومن اسم هذه القرية اشتُق اسم “الشماغ”، الذي يعني الإباء وغطاء الرأس والشموخ
منذ قرون طويلة، وقبل عهد الملك حدد بن بدد، كان يتم تصدير الشماغات إلى بلاد الرافدين. ويعتقد أن كلمة “شوماخ” أو “شوماغ” في اللغة السومرية تعني غطاء الرأس، مما يعكس الامتداد التاريخي لهذا الرمز الثقافي العريق
المراجع
د . احمد عويدي العبادي, عقيدة الملك المؤسس حدد بن بدد ومنهجه العبقري في الحكم
د . احمد عويدي العبادي, المملكة الأردنية الأدومية, ، عمان، الأردن