المملكة الأردنية الأدومية، جزء: ٧ – العلاقات والتحالفات الداخلية والخارجية
تميزت مملكة أدوم الأردنية بعلاقاتها المتشابكة مع الممالك المجاورة والقوى الإقليمية الكبرى. ورغم فترات التوتر والصراع، فقد شهدت هذه العلاقات تحالفات استراتيجية قائمة على المصالح المشتركة. فكيف كانت طبيعة علاقات الأدوميين الأردنيين مع أشقائهم ومنافسيهم عبر التاريخ
مملكة أدوم الأردنية وشقيقاتها
لا يمكننا الجزم بأن العلاقة بين الأردنيين الأدوميين وأشقائهم الأردنيين المؤابيين والعمونيين تصنف ضمن العلاقات الخارجية. وعلى الرغم من أن علاقاتهم لم تخل أحيانًا من التوتر والخلافات، إلا أن الحقائق تشير إلى أن مستوى الاحتكاك السياسي بين هذه الممالك الأردنية كان محدودًا من حيث النزاعات. بل على العكس، فقد شهدت هذه الممالك تحالفات متكررة في مواجهة التهديدات الخارجية التي كانت تهدد وجودهم. ومما لا شك فيه أن شعوب هذه الممالك، التي تمثل الأردنيين الأوائل، كانت تجمعهم روابط مميزة وعلاقات وطيدة. فقد نشأت هذه الشعوب وتطورت في ظل ظروف مشتركة وفي تزامن زمني، مما يجعل من الصعب عزلها أو فصلها عن بعضها البعض بأي شكل من الأشكال
مملكة أدوم الأردنية والعبرانيين
تميز تاريخ أجدادنا الأردنيين الأوائل بعلاقات مليئة بالتوتر والنزاع مع القبائل العبرانية والممالك التي أسستها تلك القبائل. ولم يقتصر هذا الصراع على الأردنيين الأدوميين وحدهم، بل شمل مملكتي عمون ومؤاب الأردنيتين أيضًا. وتعود جذور هذا النزاع إلى أطماع العبرانيين في الأراضي الأردنية
وفقًا للمصادر التاريخية، بدأ النزاع بين الأدوميين الأردنيين والقبائل العبرانية قبل قيام دول عبرانية مستقرة، عندما كانت القبائل العبرانية مجرد جماعات بدوية متنقلة. تشير هذه المصادر إلى أن النبي موسى، قائد العبرانيين، طلب من ملك أدوم الأردنية السماح بالمرور عبر أراضي مملكته للوصول إلى فلسطين، متعهدًا بألا يمس العبرانيون المزروعات أو المياه، وأن يكون مرورهم سلميًا. غير أن الملك الأدومي رفض ذلك، واستعد لمواجهتهم عسكريًا
كما ورد في التوراة, رسالة سيدنا موسى عليه السلام الاولى الى ملك الاردن الملك الادومي المؤسس حدد بن بدد {وَأَرْسَلَ مُوسَى رُسُلًا مِنْ قَادَشَ إِلَى مَلِكِ أَدُومَ: هكَذَا يَقُولُ أَخُوكَ إِسْرَائِيلُ: قَدْ عَرَفْتَ كُلَّ الْمَشَقَّةِ الَّتِي أَصَابَتْنَا. إِنَّ آبَاءَنَا انْحَدَرُوا إِلَى مِصْرَ} سفر العدد ١٤: ٢٠
فيما بعد، ومع تزايد قوة العبرانيين وانتقالهم من نظام القضاة القبلي إلى نظام الملكية، كانت مملكة أدوم الأردنية قد تأسست منذ قرون. خلال هذه الفترة، تمكن الملك – النبي داوود من هزيمة الأدوميين الأردنيين وفرض نوع من الحكم غير المباشر على مملكتهم. لكن الأردنيين الأدوميين لم يستسلموا بسهولة، واستمرت محاولاتهم للانتفاض على هذا الحكم
وتشير الروايات التاريخية إلى أن ملك الاردن الملك الادومي المؤسس حدد بن بدد، لجأ إلى مصر وتزوج من أخت زوجة الفرعون آنذاك. وبعد وفاة الملك النبي سليمان، عاد إلى مملكته ونظم شعبه الأردني الأدومي مجددًا. وتمكن لاحقًا من هزيمة ملك مملكة يهوذا، يهوشافاط، واستعادة حكمه وسيطرته على أجزاء واسعة من مملكة يهوذا
مملكة أدوم الأردنية ومصر
حرص المصريون القدماء على الحفاظ على علاقات طيبة مع الأردنيين الأوائل، نظراً لما يتمتع به موقع الأردن الجغرافي من أهمية استراتيجية أمنية واقتصادية كبيرة. وظهر ذكر الأردنيين الأوائل في السجلات المصرية قبل نشأة الممالك الأردنية الثلاث واستمر هذا الذكر عبر التاريخ
تميزت العلاقات بين الأردنيين الأدوميين والمصريين القدماء بخصوصية واضحة، حيث ورد ذكر الأدوميين بشكل متكرر في سجلات تل العمارنة المصرية. كما نشأت شراكات اقتصادية مهمة بين الطرفين، حيث استورد المصريون النحاس والقار من أدوم. علاوة على ذلك، لعبت مملكة أدوم الأردنية دوراً مهماً في حماية التجارة المصرية التي كانت تمر عبر أراضيها
وورد ذكر أدوم في المصادر الفرعونية في رسالة أرسلها ضابط حدود موجهة للفرعون (مرنبتاح ١٢٢٤- ١٢١٤ قبل الميلاد) يقول فيها أننا سمحنا للقبائل البدوية الأدومية لتعبر قلعة مرنبتاح حوتب – حير…للحفاظ على حياتهم وحياة مواشيهم
وتبين هذه الرسالة بوضوح أن أدوم كانت موجودة منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ويمكننا الإضافة أن المصطلح أو الاسم “ا -د-ما” قد ورد في القوائم الطوبوغرافية من زمن الفرعون تحتموس الثالث (حوالي ١٤٩٠ – ١٤٣٦ قبل الميلاد)
ولإسم سعير فقد ذكر أول مرة في رسائل تل العمارنة المؤرخة للقرن الرابع عشر قبل الميلاد، وبشكل محدد في الرسالة رقم (٢٨٨) التي أرسلها حاكم القدس (أورشليم) واسمه عبده-حبّا (المحب عبده) إلى الفرعون المصري أمنحوتب الثالث ويعلمه بوجود حرب مشتعلة وصلت إلى أرض سعير: “إلى الملك، سيدي، إله الشمس، قل: هكذا عبد هيبا، عبدك…………………… لقد ضاعت أرض الملك؛ لقد أُخذت مني بالكامل (٢٥)؛ هناك حرب ضدي؛ حتى أرض سعير (و) حتى جت الكرمل……” (بريتشارد ١٩٥٥: ٤٨٨)
وتوالى ذكر منطقة سعير في المصادر الفرعونية، إذ ورد في نص مكتوب على ورقة بردي من زمن الفرعون رمسيس الثاني (١٢٩٠ – ١٢٢٤ قبل الميلاد) بأن هذا الفرعون هاجم بلاد سعير ونهبها (كيتشن ١٩٩٢: ٢٦-٢٧)
وتجلت ذروة هذه العلاقات في مظاهر الاحترام المتبادل، كما يظهر في القصة التي تشير إلى لجوء الملك الأدومي الأردني حدد بن بدد إلى مصر، حيث استقبله ملك مصر وزوجه من أخت زوجته. يعد هذا الحدث دليلاً قوياً على العلاقة الندية بين الأردنيين الأدوميين وحكام مصر القديمة
مملكة أدوم الأردنية والأشوريون
وبعد سقوط الامبراطورية الفرعونية في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حلّ محلها سيطرة آشورية على منطقة شرقي البحر المتوسط، خاصة في الألف الأول قبل الميلاد، أخذ اسم “أدوم” يتردد في هذه المصادر. فلقد ذكر الملك الآشوري أدد-نيراري الثالث (حوالي ٨١٠ – ٧٨٣ قبل الميلاد) بأن قواته قد أتبعت أدوم لمملكته. علماً أن بعض المؤرخين يرى أن أدوم دخلت طوعاً في تبعية الحكم الآشوري لحمايتها من أعدائها مقابل دفع الجزية. واستمرت تبعية أدوم وعمون ومؤآب لآشور في زمن حكم الملك تيغلات-بلاسر الثالث حيث هاجم فلسطين في عام ٧٣٤ قبل الميلاد، وخضعت جميع المنطقة لحكمه
ورد اسم أدوم، وأسماء الملوك الأدوميين في المصادر الآشورية أكثر من مرة، فعلى سبيل المثال لا الحصر وفي نقش عمائري من زمن الملك تيغلات – بلاسر الثالث يذكر اسم الملك الأدومي “قوس- ملكو” من بين الملوك الذين دفعوا له الجزية (بريتشارد ١٩٥٥: ٢٨٢). كما ورد اسم أدوم في رسالة من زمن الملك سرجون الثاني بين عدد من أسماء البلدان الأخرى التي تحالفت ضده أثناء حملته على فلسطين عام ٧١٢ قبل الميلاد. إضافة إلى ذلك فقد قدم الملك الأدومي (عيّار- عمو) الهدايا للملك سنحاريب في عام ٧٠١ قبل الميلاد. كما أن الملك الأدومي ( قوس-جبّار) كان واحداً من بين إثني عشر ملكاً قدموا مواداً لبناء قصر الملك الآشوري (أسرحدون) في نينوى (بريتشارد ١٩٥٥:٢٩١). كذلك تابع هذا الملك الأدومي تقديم الهدايا للملوك الآشوريين ، إذ أهدى للملك (آشور-بنيبال). ولتأكيد الصفة الملكية لملوك أدوم فقد عثرت الباحثة البريطانية كريستال بنت في حفرياتها في موقع أم البيارة على طبعة ختم مطبوعة على سدادة جرة تخص الملك قوس-جبّار، وتصفه بملك أدوم
سجلات الملك الأشوري آشور بانيبال
خلال حملات آشور بانيبال على مصر والمنطقة، ذكرت ممالك عمون ومؤاب وأدوم إلى جانب ملوكها. في أحد النقوش الملكية الخاصة به، وردت أسماء عدة ملوك، من بينهم
قوس جبري ملك أدوم، موسوري ملك مؤاب،عمي نادبي ملك عمون، وغيرهم
ويعتقد كثير من الباحثين أن تكرار الحملات الآشورية على فلسطين فتح الباب أمام الأدوميين للدخول إلى منطقة النقب، أي إلى الغرب من وادي عربه. وقد أكد هذا الكلام الحفريات الأثرية التي جرت في عدد من مواقع هذه المنطقة وتبين أنها أدومية من خلال المعثورات الأثرية التي وجدت فيها. ويظهر أن الدولة الأدومية قد ازدهرت خلال القرن السابع قبل الميلاد، على الرغم من كونها أنها كانت تابعة لآشور. وازداد توسع أدوم بجنوبي فلسطين بشكل خاص بعد زوال وسقوط دولة يهوذا على يد الملك البابلي (نبوخذ-نصر) في عام 586 قبل الميلاد. وعثر في موقع في النقب يسمى خربة كتميت على مركز ديني أدومي بني فيه مذبح مستدير الشكل. ويبدو لنا أن الملك البابلي نبونيد قد هاجم مملكة أدوم خلال حملته على المنطقة في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، إذ عثر حديثاً على مسلة له منحوته على الصخر في بلدة السلع بالقرب من مدينة الطفيلة
اضطرت المصالح الاستراتيجية الأردنيين الأدوميين إلى المبادرة ببناء علاقات مع الأشوريين، الذين كانوا يمثلون قوة إقليمية عظمى لا يمكن تجاهلها. سعى الأشوريون إلى فرض سيطرتهم على المناطق الشمالية من خلال هزيمة ملوكها وإخضاعها بشكل مباشر، وذلك لضمان حماية مصالحهم التجارية والأمنية
وفي ظل هذه الظروف، أقدم أجدادنا الأردنيون الأدوميون على التواصل مع ملوك أشور وتقديم الهدايا لهم، في مسعى لحماية أراضيهم واستقلالهم، وتجنب الحروب المدمرة التي قد تهدد استقرارهم وتضر بمصالحهم. وتشير المصادر التاريخية إلى أن العلاقات بين الأردنيين الأدوميين والأشوريين قد شهدت تطورًا ملحوظًا، حيث تؤكد السجلات الأشورية أن مملكة أدوم الأردنية كانت من أقل الممالك التي دفعت ضرائب سنوية للأشوريين. يعكس ذلك المكانة المميزة التي نجح أجدادنا الأدوميون الأردنيون في بنائها لدى الأشوريين
مملكة أدوم الأردنية و الحكم الفارسي
ويبدو أنه وبعد سقوط المنطقة تحت الحكم الفارسي في عام ٥٣٩ قبل الميلاد، تم بناء عدد من المراكز الحضرية في المناطق المحيطة ببصيرة وطويلان وفي النقب. ويدل على هذا الأسماء الأدومية المكتوبة على الفخار والتي وجدت في مواقع “عراد” بفلسطين و “تل الخليفه” في الأردن وكلها تؤشر على وجود بلدات أدومية خلال القرن الخامس قبل الميلاد في غربي وادي عربه. أما بعد دخول اليونان لهذه المنطقة في عام ٣٣٢ قبل الميلاد، فقد تحول اسمها من أدوم الى أدوميا (بارتلت 1972)
العلاقات الخارجية لمملكة أدوم الأردنية بشكل عام
العلاقات الخارجية لمملكة أدوم الأردنية كانت تعتمد بشكل أساسي على التجارة، التي شكلت المصدر الرئيسي للدخل بالنسبة الأردنيين الأدوميين. لعبوا دورًا محوريًا كوسطاء تجاريين، إلى جانب تسويق منتجاتهم الخاصة، وأبرزها النحاس، الذي كان يمثل موردًا اقتصاديًا هامًا. هذا الدور التجاري فرض عليهم التفاعل مع العديد من الشعوب خارج محيطهم الجغرافي المباشر. فقد كانت مملكة أدوم الأردنية من أبرز مصادر النحاس في العالم القديم، مما أدى إلى توسع علاقاتهم التجارية مع مختلف الحضارات، خاصة ضمن نطاق العالم القديم وحوض البحر الأبيض المتوسط، رغم أن هذه العلاقات كانت ذات طابع تجاري أكثر منها سياسي أو دبلوماسي
المراجع
إرث الأردن, مملكة أدوم الأردنية- العلاقات الخارجية
أ. زيدان عبد الكافي كفافي، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية)، دار ورد، عمان
أ.د. زيدان كفافي , أدوم في المصادر التاريخية
Bartlett, J. R. 1972; The Rise and Fall of the Kingdom of Edom. Palestine Exploration Quarterly 104: 26-37
Helck, W. 1971; Die Beziehungen Agyptens zu Vorderasien im 3 und 2 Jahrtausand v. Chr., 2nd edition. Wiesbaden
Kitchen, K. A. 1992; The Egyptian Evidence on Ancient Jordan. Pp. 21-34 in P. Bienkwoski (ed.), Early Edom and Moab:The Beginning of the Iron Age in Southern Jordan. Sheffield Archaeological Monographs 7. Sheffield: J.R. Collins
Pritchard, James 1955; Ancient Near Eastern. Texts Relating to the Old Testament. Princeton: Princeton University Press
Shahid, Irfan 2009; The Ethnic Origin of the Edomites. Sudies in the History and Archaeology of Jordan 10:133-136