مملكة الأنباط الأردنية، جزء: ١٤ – النظام الاقتصادي
يعد الأنباط من أبرز الشعوب العربية الاردنية أدومية الأصل القديمة الذين تمكنوا من بناء حضارة متميزة في قلب الصحراء. فقد برعوا في استثمار موقعهم الجغرافي لتأسيس اقتصاد قوي قائم على التجارة والصناعة. ويكشف هذا النص عن الجوانب الاقتصادية المتنوعة التي شكلت جوهر تفوقهم التاريخي
من أبرز ما ميز الأنباط وشكل جوهر هويتهم الإقليمية والتاريخية، هو تفوقهم اللافت في مختلف الأنشطة الاقتصادية، سواء كانت تجارية، صناعية، أو زراعية. وقد أجمع الباحثون على أهمية هذا الجانب الذي يعد من أكثر فصول التاريخ النبطي إشراقًا وجذبًا للاهتمام. إلى جانب ذلك، برع الأنباط في فنون العمارة، خاصة في طريقتهم الفريدة في نحت المدن داخل الصخور الطبيعية، كما يتجلى بوضوح في مدينتي البترا والحِجر
أما في مجالي التجارة والصناعة، فقد عرف الأنباط بتداول عدد كبير من السلع، بعضها قاموا بتصنيعه بأنفسهم، فيما استوردوا بعضها الآخر من أسواق خارجية. وتشير الدلائل إلى أن الأنباط انخرطوا في تجارة القوافل حتى قبل استقرارهم في منطقة جبال الشراة. وتدعم السجلات الآشورية – التي تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد – هذا التقدير، حيث توثق حملات الجيوش الآشورية ضد القبائل العربية في شمال غرب الجزيرة وشمالها الشرقي، بهدف تأمين طرق التجارة
ويبدو أن الأنباط شاركوا حينها، أو حتى قبل ذلك، في هذه الشبكات التجارية، إما كمقدمي خدمات للقوافل، مثل تأمين المياه والجمال والعلف، أو كأصحاب قوافل قادرة على إدارة هذه العمليات بين المراكز التجارية الممتدة من شمال شرق الجزيرة العربية إلى جنوبها مرورًا بغربها، عبر الطرق التقليدية للتجارة. ومن الأمثلة التاريخية الدالة على هذا الدور، ما حدث خلال حملة قمبيز الفارسي على مصر، حين اعتمد على القبائل العربية – وربما الأنباط من ضمنها – لتوفير الماء والدعم اللوجستي لقواته
من المؤكد أن الأنباط ينحدرون من أصول بدوية، امتلكت خبرة طويلة في تربية الإبل والتعامل معها، خاصة في الصحارى وعلى طرق القوافل التجارية. لا خلاف في أن الأنباط، في تلك المرحلة، كانوا مرتبطين بشكل أو بآخر بالتجارة والقوافل. ثم جاءت المرحلة التالية، حيث بدأوا بالتغلغل في مناطق الأدوميين، وهم شعب كان يغلب عليه الطابع الزراعي أكثر من العسكري، ويبدو أنهم لم يكونوا مقاتلين بارعين، مما سهل على الأنباط التوسع في أراضيهم بسلام دون الحاجة إلى الحرب
أما ما ورد في العهد القديم (في سفر أمازيا) والسجلات الآشورية حول الأدوميين، والذي يصورهم كشعب خاضع يدفع الجزية، فإنه يعزز الصورة بأنهم كانوا ميّالين للسلم أكثر من القتال. في المقابل، كان الأنباط أبناء الصحراء، مت ، قد كوّنوا من أنفسهم قوة قادرة على فرض السيطرة على دويلة زراعية أنهكتها عوامل الضعف
أدرك الأنباط أهمية الموقع الجغرافي لبلادهم ضمن شبكة الطرق التجارية في الإقليم، فاستثمروا هذا الموقع ليصبحوا من كبار التجار وأصحاب القوافل والأسواق. ولم يكن لهم أن يحققوا هذا الدور لولا تأسيسهم لنظم أمنية وتنظيمية وإدارية فعالة، بالإضافة إلى تقديم الخدمات اللازمة لكافة احتياجات القوافل من مختلف الجهات
ويبدو أن هذه النظم كانت قد تطورت ونضجت حتى قبل تأسيس دولتهم رسمياً، وهو ما تؤكده الاكتشافات الأثرية التي تشير إلى وجود نشاط اقتصادي مزدهر في المنطقة قبل قيام المملكة. من مظاهر ذلك استغلالهم للقير (الإسفلت المستخرج من البحر الميت)، ثم قيادتهم للقوافل، وتربيتهم للمواشي. كما بدأوا أيضاً بصناعة الفخار، وهي حرفة ورثوها عن الأدوميين، ثم طوروها حتى أصبحت جزءاً أساسياً من الاقتصاد النبطي، بل وعنصراً من عناصر هويتهم الثقافية
قد يطرح تساؤل حول المسار الأول الذي سلكه الاقتصاد النبطي في تطوره: هل كانت الزراعة هي البداية، أم التجارة، أم الصناعة؟ من المنطقي استبعاد الصناعة، إذ أن قيامها يتطلب وجود قاعدة اقتصادية متقدمة، خاصة في الزراعة أو التجارة، لكونها توفر الفائض المالي اللازم لتأسيس قطاع صناعي
وقد رجح بعض الباحثين أن الزراعة كانت المحرك الأول للاقتصاد النبطي، مستندين في ذلك إلى نماذج تاريخية من العصور البرونزية والحديدية، حيث كان الجمع بين الزراعة وتربية الماشية يمثل اقتصاد الكفاف، الذي تطور لاحقاً إلى زراعة واسعة تهدف إلى التصدير. ويقوم هذا الطرح على أن الزراعة وفرت فائضاً من المنتجات، ما شجع على تصديرها، وبالتالي على ازدهار التجارة، خاصة مع توفر طرق مواصلات تربط بين مناطق غنية مثل بلاد الرافدين شرقاً، ومصر غرباً، والإغريق شمالاً
ورغم وجاهة هذا الطرح وإمكانية تعميمه على مجتمعات عديدة، إلا أنه يصطدم بصعوبات عند النظر في حالة المجتمع النبطي. فالأنباط، الذين كانوا في بداياتهم من البدو، لم يمتلكوا الإمكانيات أو ربما الرغبة في تطوير الزراعة الأدومية. بل على العكس، فإن ديودور الصقلي أشار إلى أنهم تعهدوا بعدم زراعة الحبوب أو غرس الأشجار. ويمكن تفهم هذا التوجه عند الأخذ بعين الاعتبار النفور التقليدي لدى البدو من العمل الزراعي، إذ غالباً ما يفضل البدوي أي عمل آخر على الانخراط في الزراعة
من هنا، فإن الأرجح أن التجارة هي التي كانت المحرك الأول لاقتصاد الأنباط، لا الزراعة. فبعد أن اشتغلوا بالتجارة لصالح غيرهم، اكتشفوا منافعها، ووجدوا فيها ما ينسجم مع ثقافتهم التي تمجد الترحال، والاستقلال، والمغامرة، وتحدي صعوبات الطرق الصحراوية
أبرز الطرق التجارية التي استخدمها الأنباط أو كانت معروفة في عصرهم
- الطريق الجنوبي إلى اليمن: يبدأ من إيلة (العقبة) مرورًا بالعلا، تيماء، مكة، وصولًا إلى اليمن
- الطريق الشرقي: يمتد من وادي السرحان عبر تيماء وصولًا إلى الخليج العربي
- الطريق الغربي: يمر من إيلة إلى عصيون جابر، ثم عبر صحراء النقب إلى غزة، العريش، وصولًا إلى الإسكندرية
- الطريق الشمالي: ينطلق من البتراء عبر طريق تراجان “السلطاني” إلى بصرى، أو من خلال “طريق الملوك” الذي يمر بمدن الديكابوليس مثل عمان وجرش وصولًا إلى بصرى
- الموانئ البحرية: استخدم الأنباط ميناء “لويكي كومي” (أو “إيلة” – العقبة) على البحر الأحمر كنقطة انطلاق نحو اليمن جنوبًا، أو إلى مصر غربًا. ومن هناك، تُشحن البضائع عبر ميناء غزة على البحر المتوسط نحو الإسكندرية، ومنها إلى روما وإلى مختلف أنحاء العالم
في ظل هذه الشبكة الواسعة من طرق المواصلات، أصبحت بلاد الأنباط، ولا سيما عاصمتهم البتراء، تحتل موقعًا استراتيجيًا منحها مكانة رائدة. ففي مدينة العلا، التي كانت تشكل محطة حدودية نبطية، كان عرب اليمن يسلمون بضائعهم إلى عرب الأنباط، ليجري نقلها إلى تيماء حيث تفرز وتقسم. يرسل جزء منها شمالًا إلى بصرى وتدمر والشام، ليصل إلى سوريا، في حين ينقل جزء آخر إلى العقبة فالعريش ثم إلى الطرف الشمالي من شبه جزيرة سيناء ومنها إلى مصر. أما القسم الثالث فكان يرسل عبر طريق حائل إلى بابل، في مسار واسع يهدف إلى تجنب صحراء النفوذ ومشقاتها
ويبدو أن الطريق التجارية الشمالية في زمن الأنباط كانت تسلك هذا النمط: تصل القوافل اليمنية إلى تيماء، حيث تنقل البضائع إلى الأنباط، في عملية تبادل حدودي منسقة، تعكس سياسة نبطية مدروسة تهدف إلى ضمان نصيبهم من أرباح نقل التجارة. غير أن هذه المرحلة من التبادل توقفت لاحقًا، وأصبح التجار اليمنيون يعبرون الطرق كلها حتى العقبة، وذلك نحو بداية العصر المسيحي. ومع انتقال السيطرة الكاملة على حركة البضائع إلى الأنباط، صارت التجارة تنقل بإشراف مباشر من موظفين وكتبة وجباة ضرائب (الجمارك)، الذين كانوا يرافقون القوافل عبر صحراء سيناء، في حين كان الرعاة العرب يعتنون بإبلهم في تلك المناطق
شهدت دولة الأنباط ازدهارًا وقوة بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، ويعزى هذا الازدهار بشكل رئيس إلى موقعهم التجاري المميز، إذ كانت بضائع شمال الجزيرة العربية الغنية تمر عبر أراضيهم. وكانت القوافل التجارية الكبيرة تحط رحالها هناك، ليعاد توجيهها إلى مصر وسوريا واليونان وإيطاليا، مرورًا بمدينة البتراء، ومن خلال مينائي غزة والإسكندرية
ومن المؤكد أن جزءًا كبيرًا من هذه البضائع كان ينقل أيضًا عبر البحر الأحمر. وقد ازداد نفوذ الأنباط بشكل ملحوظ بفضل الضرائب المرتفعة التي فرضوها على البضائع العابرة لأراضيهم. كما توسّع نشاطهم التجاري ليشمل مناطق واسعة من العالم، حيث وجدت آثار لتجارتهم في سلوقية والإسكندرية ورودس وميليتوس وديلوس وعدة موانئ سورية، بل وحتى عند مصب نهر الفرات، حيث عثر على نقوش كتابية تشير إليهم
ولا شك أن الأنباط أدركوا مقومات النجاح التجاري، فعملوا على تأمين الطرق التجارية وتوفير الخدمات الأساسية، خاصة المياه، فضلًا عن توفير المرشدين والأدلاء ومزودي القوافل بما يلزمها من أعلاف وطعام وخدمات، مما جعل التجار يقبلون عليهم طواعية ويدفعون ربع تجارتهم كضريبة عن رضا
من المؤكد أن الأنباط كانوا يلتزمون بما اشتهر به العرب من احترام العهود والمواثيق، كما أشار هيرودت بقوله إن العرب من أكثر الأمم وفاءً بالعهد وتقديسًا له. ومن المرجح أن أغلب المواثيق التي كان الأنباط يعقدونها كانت شفوية وغير مدونة، وهو ما يفسر غياب أي وثائق رسمية توثق عهودهم الداخلية أو الخارجية، باستثناء عدد محدود من عقود البيع والرهن التي عثر عليها قرب البحر الميت. ويلاحظ أن الاعتماد على الشفوية في إبرام المواثيق والعقود لا يزال قائمًا في كثير من القبائل العربية حتى يومنا هذا
تاجر الأنباط بمجموعة متنوعة من السلع والبضائع، وكان من أبرزها العطور والطيوب المستوردة من اليمن، والمنسوجات الحريرية القادمة من دمشق والصين، إضافة إلى الحناء العسقلاني واللآلئ من الخليج العربي. كما شملت تجارتهم منتجات محلية مثل زيت السمسم والذهب والفضة، وكانت هذه السلع تباع بأسعار مرتفعة، خاصة البخور، الذي كان يعد من المواد الأساسية في حياة الناس وطقوسهم الدينية. وقد استخدم البخور والمُر أيضاً في تحضير الأدوية، بينما دخل المُر في صناعة مستحضرات التجميل والعطور، وكذلك في طقوس الدفن. ولم تنافس هاتين السلعتين في قيمتهما سوى منتجات محلية محدودة مثل البلسم والقار. وقد اشتهر الأنباط أيضاً بصناعة الخزف الرقيق، الذي تميز بدقته وصغر حجمه وتسلسله في الأحجام، مما جعله مناسبًا للاستخدامات المتعلقة بالعطور
قام الأنباط باستخراج القار من البحر الميت، وكان لهذا القار استخدامات متعددة، أبرزها تصديره إلى مصر حيث استخدم في عمليات التحنيط. كما كان يستخدم أيضًا كمادة فعالة في طلاء السفن، إذ يمنع تسرب الماء إلى داخل أخشابها، مما جعله ذا أهمية كبيرة في مجال الملاحة
أما السلع التي اشتهر الأنباط بالاتجار بها، فتشمل
المعادن: منها ما استخدم في صناعة النقود والمجوهرات والمعدات الحديدية كالسلاح، بالإضافة إلى العملات الفضية والبرونزية. وكان البرونز يعد المادة الأساسية في سك العملات، بينما استخدم الذهب لأغراض متنوعة. كذلك استعمل القار في صناعة الحلي التجميلية، إلى جانب تصديره إلى مصر، في حين كان النحاس يصدر إلى فلسطين
ويعتبر التعدين من الأنشطة الاقتصادية الرئيسة لعرب شمال غرب الجزيرة العربية، خصوصًا في منطقة مدين القديمة، بالإضافة إلى عرب شرق الأردن وشبه جزيرة سيناء. فقد اشتهرت مدين بذهبها، وبرزت مناطق شرق الأردن وشمال خليج العقبة بنحاسها، أما سيناء فقد عرفت منذ القدم بنحاسها وفيروزها. وتشير النقوش النبطية المكتشفة إلى ممارسة حرفة الصياغة، حيث ورد مصطلح “صيغ” للدلالة على الصائغ
ومن أبرز المناطق التي اشتهرت بالنشاط التعديني كانت فينان، المعروفة بمناجم النحاس الواسعة، وكذلك منطقة النقب التي عرفت باستخراج المعادن، إلى جانب انخراطها في الزراعة والتجارة. ويعد تعدين النحاس من أبرز أنشطة الأنباط، وتعتبر خربة فينان الواقعة شمال البتراء من أكبر مناجم النحاس في المنطقة، حيث قدرت كمية النحاس المكتشفة فيها بنحو 15,000 طن، استنادًا إلى أكوام خبث النحاس المنتشرة هناك
التوابل والملح والبخور والعطور: كان الملح يستخرج من البحر، ويرجح أن إنتاجه تم في وادي السرحان (قريات الملح). أما التوابل والبخور والعطور، فقد كانت تستورد من مناطق مختلفة لتلبية احتياجات الأسواق
النبيذ: صنع النبيذ باستخدام الرمان والعنب (الكرمة)، وبلغت صناعته ذروتها خلال العصر الروماني، حيث ازدهرت وأصبحت من الصناعات المعروفة في ذلك الوقت
اللؤلؤ والحرير: كان اللؤلؤ يجلب من الخليج العربي، بينما نُقل الحرير إلى العرب عن طريق اليونان والرومان، بعد استيراده من الصين
الفخار النبطي: تميز الفخار النبطي بجماله ورقة سماكته وتعدد ألوانه وأحجامه، التي وصلت إلى أحجام دقيقة جدًا. وتشير الدراسات إلى أن بقايا هذا الفخار تعود إلى الفترة الممتدة من النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد حتى نهاية القرن الثالث الميلادي
وفيما يخص الفخار النبطي، فقد أصبح أداة أساسية يعتمد عليها الأثريون في تقدير العديد من عناصر الثقافة النبطية. وكان، إضافة إلى ذلك، سلعة نبطية بارزة تفوقت على مثيلاتها في المناطق الأخرى. ورغم التأثيرات المختلفة، مثل الهلنستية والبارثية، التي بدت واضحة في الفخار النبطي، إلا أن الأنباط قد أبدعوا في إنتاج نوع فاخر ومميز من الفخار. وأشارت الدراسات الأثرية إلى أن الفخار النبطي تطور بشكل مباشر عن الفخار الأدومي الذي يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد
لكن الدراسات الأثرية قد أهملت بعض السلع التي كانت لابد شائعة جدًا في ذلك العصر. فقد أشارت بعض المصادر التاريخية إلى بعض هذه السلع مثل تجارة الرقيق التي كانت شائعة في الشرق في تلك الفترة. فكانت سواحل البحر المتوسط مراكز مزدهرة لتجارة الرقيق، وكانت غزة أكبر أسواقها والمصدر الرئيسي لتصدير الرقيق. ويبدو أن الأنباط لم يكونوا مهتمين بشكل كبير في اقتناء العبيد، حيث كانوا يعتمدون على خدمة بعضهم البعض أو خدمة أنفسهم بأنفسهم، وهي عادة كانت معروفة في ملوكهم
من المؤكد أنه كان هناك العديد من الصناعات اليدوية والتجارية التي ساهمت في دعم الاقتصاد المحلي. كما تعكس الحياة اليومية للبدو صورًا عن النشاطات الاقتصادية في تلك المناطق، مثل الصناعات النسيجية الخشنة (كالزجاج والبسط) والسجاد وبيوت الشعر والحقائب
والأكياس ومستلزمات حفظ البضائع ونقلها، بالإضافة إلى الملابس الناعمة، ودباغة الجلود، والصناعات الاستهلاكية المحلية، والأدوات الموسيقية، والسهام، والنبال، والأسلحة الخفيفة، كانت جميعها جزءًا من الصناعات الترفيهية أو الكمالية التي كانت معروفة جنبًا إلى جنب مع الصناعات الأساسية الأخرى. هذه الصناعات كانت تشكل جزءًا من الحياة في الشرق الأدنى سواء في العصور القديمة أو الحديثة، وكان من الضروري أن تمارسها مختلف شرائح المجتمع من البدو والمستقرين على حد سواء
من المؤكد أن الأنباط مارسوا تجارة الأغنام، وكانت لحوم هذه الأغنام وألبانها ضرورية للمسافرين والقوافل والمواطنين على حد سواء. كانت الألبان تحفظ وتنقل في أوعية جلدية. كما أن الدراسات تجاهلت الزيوت، مثل زيت السمسم الذي كان من أقدم الزيوت التي ذكرت في المصادر التاريخية، ثم زيت الزيتون الذي انتشرت معاصرة بشكل كبير في جبال الشراة، خصوصًا في وادي موسى قرب البتراء
من بين السلع التي أنتجها الأنباط أيضًا الفواكه والخضار التي كانت بعض مناطق الشراة تزرعها، حيث تم تسويق بعضها محليًا وخارجيًا، وخاصة الرمان والكرمة في العهد اليوناني الروماني. كما يحتمل أن يكون الجير (الشيد) من المنتجات المهمة التي أنتجها الأنباط وصدروها، حيث توجد في منطقة جبال الشراة اليوم العديد من آثار معامل الشيد من مختلف العصور
ويجب أن نذكر أيضًا المصنوعات النسيجية الخشنة التي كانت تصنع من أصواف الضأن وشعر الماعز، بالإضافة إلى المنسوجات الناعمة التي كانت تُصنع من وبر الإبل المتوفر بكثرة في المنطقة. ومن المؤكد أن الأنباط قد برعوا في صناعة الأدوات الحديدية الدقيقة اللازمة لفن البناء والنحت، وهو ما يمكن استنتاجه من الآثار العمرانية الرائعة والدقيقة التي خلفوها
أما بالنسبة للصناعات الجلدية، فمن المؤكد أن معظمها كان مخصصًا لصناعة الأوعية التي تستخدم في حفظ السوائل. وقد كانت هذه الصناعة من أكثر الصناعات المحلية أهمية في مجال التجارة والاستهلاك إلى جانب صناعة الفخار. كما اشتهر الأنباط أيضًا بصناعات جلدية أخرى مثل الأحذية والصنادل والسيور التي تم العثور عليها في بعض القبور، بالإضافة إلى الملابس التي كانت تصنع من فراء الخراف. ومن المحتمل أن بعض الأنباط، خاصة التجار منهم، قد استخدموا الجلود لصناعة الأخبية التي تشبه الخيام الصغيرة أو لصناعة بعض الحقائب والأكياس التي كانت تستخدم في نقل أو تخزين السلع الثمينة أو الثقيلة. أما بالنسبة للصناعات الخشبية، فمن المرجح أن الأنباط كانوا يضطرون لاستيراد الأخشاب من الخارج، لأن مناطقهم كانت تفتقر إلى الغابات الكبيرة. وفي حال وجود بعض الأحراج الصغيرة من السنديان أو أشجار أخرى صلبة، فإنها كانت بالكاد تكفي للاستخدام المحلي. ويبدو أن صناعة الفخار والزجاج والجير، التي كانت تتطلب كميات كبيرة من الحطب، قد أضعفت الموارد المحدودة من تلك الأحراج في وقت مبكر
يشار أيضاً إلى أن الأنباط كانوا على دراية بأوزان خاصة بهم، حيث كان يطلق عليها “أب ن” أي حجر، وما زالت هذه الكلمة مستخدمة في اللغتين السريانية والعبرية بمعنى الحجر، وتلفظ بالكسر كما في كلمة “ايفن” بالإنجليزية. ويبدو أن لهذه الأحجار كان لها أوزان محلية متعارف عليها، ومن المؤكد أن اليونانيين قد أدخلوا وحداتهم الوزنية في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، مثلما قاموا بإدخال معارفهم وعناصرهم الثقافية. وقد كانت هناك بعض وحدات الوزن لدى الأنباط مثل “الككرين – ككري” التي تساوي “تالنت”، وهي وحدة وزن استخدمها كل من السوريين والفلسطينيين واليونانيين، وكان وزنها يعادل ثلاثة آلاف شيقل أو ما يعادلها من الذهب والفضة، واستخدمت الكلمة أيضاً بمعنى “عملة”. كما استخدمت كلمة “كم” لقياس الكميات والمقادير، وهي الكلمة نفسها التي نستخدمها في اللغة العربية اليوم
ثم جاء الرومان بعد ذلك وأشاعوا أوزانهم الخاصة، وقد تم العثور على عينات جيدة من هذه الأوزان، مما يدل على دقتها وتنظيمها، وقدرتها على قياس الأوزان الدقيقة مثل الذهب والتوابل والعطور. أما بالنسبة للموازين، فلا توجد لدينا آثار ملموسة منها سوى صور منقوشة على تماثيل لبعض الآلهة، ويفترض من قبل الباحثين أن الميزان الذي كان معروفاً في منطقة بلاد الشام كان معروفاً لدى الأنباط، ومن المحتمل أنهم استخدموا أشكالاً أخرى من الموازين، خاصة لقياس المواد الثقيلة. ومع ذلك، من المؤكد أن الحضارات القديمة كانت تعتمد على المكاييل أكثر من اعتمادها على الموازين
عرف الأنباط المعاملات القانونية ودونوها في نقوشهم على بعض الحجارة أو واجهات قبورهم. وفي إحدى البرديات (المستندات) وجد كشف حساب يتضمن المبالغ المستحقة (الديون) من شخص لآخر، بينما احتوت بردية أخرى على كشف حساب يتعلق بالنفقة المستحقة لامرأة. كما كان الأنباط يعرفون صكوك البيع والشراء والملكية الخاصة، حيث استخدموا فيها تعابير ومصطلحات قانونية دقيقة، كما يتضح من برديات البحر الميت التي تم اكتشافها في كهف الرسائل عام 1961
أما بالنسبة للمسكوكات النبطية، التي تعد أحد الأوجه المهمة التي تعكس الوضع الاقتصادي لأي دولة، فقد تأخر الأنباط في سكها مقارنة بالدول الأخرى، إذ ظلوا يعتمدون على العملة اليونانية حتى قام الحارث الثالث بضرب أول عملة نبطية في دمشق عام 85م، حيث كانت تحمل صورة “تايكي” وعبارة “الحارث المحب لليونان”. وكان مالك الثاني هو أول ملك يُضرب نقده الذي حمل على وجهه صورة نصفية له وعلى الوجه الآخر صورة نسر. بينما كان عبادة الثالث هو أول ملك يظهر على سكوكه صورة زوجته مع صورته على الوجه الأول وصورته النصفية على الوجه الآخر. يعتبر الحارث الرابع أكثر ملوك الأنباط الذين سكوا العملات بأشكال متنوعة، إذ ظهرت صور زوجتيه وأبنائه وبناته على عملات تذكارية. كما كانت منطقة الحجر تسك عملتها الخاصة، حيث تم العثور على قطعة واحدة تحمل اسم “الحجر” من عهد الحارث الرابع. وعرف الأنباط العملة الفضية التي كانت تسمى “كسف” والعملة البرونزية التي سُميت “سلعين” نسبة إلى مدينة سلع في منطقة الرقيم. وقد تخصصت العملة “سلعين” بالحارث الرابع، حيث كان اسمها الكامل السلعين الحارثية
قد تتمتع الحجر بقدر كبير من الاستقلالية، ربما بسبب اعتبارات قبلية، ولكن المعروف أن الحارثة الرابع نفسه ينحدر من منطقة الحجر. يعتقد أن المظاهر كانت وسيلة احتجاجية استخدمها الحارثة الرابع قبل أن يتمكن من الاستيلاء على السلطة الملكية في البتراء. ويفترض أن هذه العملة الفريدة قد تكون طبعة أو إصدارًا تذكاريًا بمناسبة معينة. ومن خلال العملة، يتبين أن الأنباط قد أصدروا مثل هذه الطبعات التذكارية
المراجع
عزام أبو الحمام المطور، الأنباط تاريخ وحضارة، دار أسامة للنشر و التوزيع، عمان – الأردن